Saturday, May 30, 2009

الرجعية التقدمية

الرجعية التقدمية

يسود المجتمع المدني المصري حاله لا أجد لها أسما و لا توصيفا سوى هذا العنوان. و المجتمع هذا هو الصحافة و المنظمات الأهلية و النشطاء و مواقع الأنترنت. و الرجعية التقدمية هذه – أو التقدمية الرجعية – تكاد تمسك بكل توجهات هذا المجتمع و أطروحاته و تفقدها المعنى و التأثير. خذ مثلا موضوع قتل بحثا و كلاما و هو بيع القطاع العام. تجد الأغلبية الكاسحة من الأطروحات تدعو الحكومة لعدم بيع القطاع العام و في نفس الوقت تتهم الحكومة و النظام عموما بمعاداة الطبقات الكادحة. أذا كانت الحكومة والنظام يعاديان تلك الطبقات فمن المنطقي أن نطالب بإنهاء سيطرة الحكومة عليه و ليس احتفاظها به كرها. المنطق يقول أذا كانت الحكومة تفرط في القطاع العام فيجب أن نأخذ منها هذا القطاع بشكل ما و نضعه في يد من يمكن أن يحافظون علية. أن "ملكية" الحكومة للقطاع العام أمرا ورثته عن فترة الناصرية و تحقق للعمال بعض "المكاسب" في ظل هذه الفترة. و مطالبة الحكومة بالاحتفاظ بالقطاع العام ليست إلا محاولة لأعاده عقارب الساعة للوراء أي محاولة رجعية بالمعنى الاجتماعي. بدلا من المطالبة مثلا بوضع القطاع العام تحت سلطة مجلس الشعب أو هيئه آخري منتخبة. بدلا من ابتكار حل يحقق مصالح العمال في ظل الظروف الجديدة يفضل معظم المهتمين العودة المستحيلة للوراء
مثال آخر، كنتيجة لانعدام التنمية اتسع ما يعرف باسم "العشوائيات" أو مدن الصفيح كما تعرف في العالم حول المدن الرئيسية. و معظم تلك الأماكن لا تليق بالحياة الأدمية. و قد شرعت الحكومة في خطة طويلة الأمد لإزالة هذه العشوائيات. لأسباب ربما منها الاستيلاء على أرضها التي أصبحت باهظة الثمن الآن. و من الغريب أن تجد أن أكثر الناس دفاعا عن حق الفقراء في حياة كريمة يطالبون بعدم هدم العشوائيات! خوفا أن يفقد سكانها مساكنهم المتهالكة و لا يجدون غيرها أي أنهم يطالبون بالاحتفاظ بالأمر الواقع المذري بدلا من أن يقفوا في صف السكان يدافعون عن حقهم في حياة كريمة. و حقهم في تقرير كيف تصاغ هذه الحياة و عدم أنفراد الحكومة بذلك .هذا شكل آخر من أشكال تلك الرجعية التقدمية.
و في بند الحقوق تجد كثيرا من هؤلاء الذين بح صوتهم مطالبا بحرية التعبير يسارعون أن مطالبة الحكومة بالضرب على من لا يرون تعبيراتهم تلائمهم . كما حدث من نقابة الصحفيين مع البهائيين و دعاة مناهضة التمييز الديني. تقدمية في المطالبة بحرية الصحافة و التعبير رجعية عنيفة في تطبيقها. و هذا ينسحب على مواقف عديدة من قضايا حقوقية و قانونية كثيرة
أما في بند الوطنية فتجد تلك الرجعية التقدمية أكثر وضوحا. فمثلا هناك هيئة تشكلت كي تتسلم الحكم في مصر و تدير البلاد لمدة عامين حتى تعيد بناء النظام السياسي – حسبما يقول أصحابها - . أول ما ستفعله هذه الهيئة هو إلغاء معاهدة كامب ديفيد! و لأي شخص أن يعجب كيف ستقوم هيئة بمثل هذه المهمة الجبارة – أعادة بناء النظام السياسي – و تبدأها بان تجر على نفسها – و الشعب – مشكلة بالغه التعقيد مثل إلغاء المعاهدة؟ فأذا كان أصحاب هذه الهيئة يعلمون أنهم أنما يطلقون تصريحات ليس لها تأثير حقيقي فهذه مشكلة و غير ذلك مشكلة أعمق. هنا أيضا محاولة للعودة للوراء بغض النظر عما يمكن أن يحدث رجعية باسم التقدمية. و خذ مثلا مقارنه الوضع السوري بالوضع المصري. سوريا لم توقع معاهدة مع إسرائيل و لكن أرضها ما زالت محتله و هي من الناحية العملية في سلام مع إسرائيل مستمر منذ 40 سنه. مصر على العكس وقعت المعاهدة لكن أرضها ليست محتله. فمن وجهه النظر الوطنية مصر في وضع أفضل كثيرا. لكن حينما تستمع -للمعارضه الوطنية – تظن أنهم يتمنون لو كانت مصر مثل سوريا . لما لان سوريا تجمدت على وضع مصر منذ 40 عاما. هذه هي الرجعية. أن القضية الوطنية تقتضى حلا جديدا ليس محاولة أستعادة الماضي.
و ثمه عشرات من ألأدلة من هذا النوع و لكن ثمه أيضا أدلة سلبيه. أي ما لا تتناوله الرجعية التقدمية. خذ مثلا الموقف من مؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي و البنك الدولي. تجد هنا ما يشبه الأجماع على أن تلك المؤسسات تلعب دورا بالغ الخطورة و الضرر في الشأن المصري سواء من زاوية طبيعة الدور نفسة أو مدى أتساعه و تغلغله. ورغم ذلك فنادرا ما توجه الرجعية التقدمية سهامها إلي تلك المؤسسات على عكس الحال في عديد من المجتمعات المناضلة الأخرى في العالم. فمواجهه مثل تلك المؤسسات لم تكن مطروحه منذ 40 أو قبلها لذا لا تجد تلك الرجعية التقدمية شيئا تدعو أليه
و مثل هذا يقال عن قضايا البيئة مع أختلاف هام و هو أن قضايا التدهور ألبيئيي نجم عنها حركات جماهيرية كبرى أبرزها انتفاضه دمياط و حركات صغرى كثيرة خاصه ضد أبراج المحمول. و لكن مرة أخرى التقدمية الرجعية لا تجد لها مكانا في تلك الموضوعات "الجديدة" ألا لماما.
و لا يقتصر الأمر على الشعارات و الأهداف بل يتعداة للوسائل. فالرجعية التقدمية لم تنجح فى ابتكار أسلوب كفاحي جديد و رحم الله شعب 1919 الذي أبتكر أسلوب جمع التوكيلات للوفد كوسيلة لإذكاء الثورة. و حتى حينما تصبح بعض هذه الوسائل واضحه العقم لا يتوقف هؤلاء عن اتباعها فنجد تلك الوقفات الاحتجاجية التي فيها أحاد و نجد البيانات التي لا تدرى من مصدرها الخ. و أحد أبرز الوسائل هو اللجوء للقضاء لحسم أمور سياسية و دفع القضاء دفعا إلي قضايا سياسية. رغم أن دعاة تلك التقدمية يدعون الي استقلال القضاء و أبعادة عن السياسية!
و وسائل المستقبل أيضا لا يراها هؤلاء ألا بعين الماضي. فتكاد تجمع تلك القوي على أن التغيير آت عبر انتفاضه واحدة – مليونية كما يقال – رغم أن ليس في التاريخ الحديث شيئا مماثلا في كل المجتمعات إلتي عرفت تغييرا واسع النطاق. أقرب شيء لذلك هو الثورة الإيرانية و هي حركه جبارة أستمرت عاما كاملا. و غير ذلك تتسم كل الحركات الاجتماعية التى حققت تغييرا ملموسا بالجمع بين وسائل عديدة انتفاضات و صناديق اقتراع و حركات منظمه الخ. لكن ثوري مصر اليوم لا يوجد في خيالهم سوى انتفاضه واحدة جبارة لا غير.
هناك أمثلة بلا حصر على تفشى تلك الرجعية التقدمية في كافة أوساط النشطاء السياسيين من كافة الاتجاهات.
و لا شك أن غياب كامل للحياة السياسية في مصر لعقود طويلة أدى ألى عقم سياسي و إلى جمهور سياسي محدود الفاعلية و إلى شبه غياب لأي فكر أو مفكرين سياسيين يمكنهم صياغة برنامج سياسي اجتماعي يتناسب مع المرحلة الحالية من تطور مصر. و لكن هذا لا يفسر الطبيعة الرحعية للتقدمية في مصر. أو بمعنى آخر لما يلجئ أنصار التغيير إلى حلول مستمدة من الماضي؟ في تقديري أن جزء من ألإجابة يكمن في عدة عناصر
أولهما أن جزء مهما من تلك المعارضة التقدمية الرجعية هي قوي رجعية بكل معنى الكلمة فقط تستخدم مقولات تبدو تقدمية كوسيلة لاحراج الحكومة لا أكثر. فالاخوان مثلا معادون للديمقراطية بنص برنامجهم و معادون لحقوق الفقراء لكنهم لا يتورعون عن رفع شعار الديمقراطية أو حقوق الفقراء حينما يجدون فى ذلك مكسبا
ثانيهما تباين مستوى التطور بين النظام و المعارضة. لقد تطور النظام المصري فى الاربعين عاما الماضية تطورا شاسعا و رغم فشلة فى خلق نظام سياسي مستقر الا أنه نجح فى بناء طبقة عريضة من المستفيدين و المدافعين عنه. و بينما يبدو النظام يضرب خبط عشواء ففي الحقيقة هو يمشى وفق خطه واضحة المعالم مدعوما من قبل مؤسسات دولية لها خبرة و وسائل واسعة المدي فى مثل تلك الامور. و ليست للمعارضة أي من هذا. فعلاوة على أنها لم تفلح فى بناء هياكل سياسية لنفسها – مثل النظام – فلم تفلح أيضا في بناء مثل تلك الخطة التى يتمتع بها النظام. لذا تأتي مواقفها كردود أفعال لمواقف و أفعال النظام. و فى مثل هذا الجو يكون اللجوء الي الحلول التي تستعيد الماضي و أبقاء الامور على ما هي علية الوسيلة المتاحة أمام معارضة فاقدة لتوجه سياسي عام.
ثالثهما أن المعارضة صنعت لنفسها أصناما تعبدها و لا تجرؤ على مناقشتها أو المساس بها من نوع التطبيع القطاع العام دور الدولة الخ. و عدم مناقشة مثل هذه القضايا في العمق بل حتي الخوف من مناقشتها يجعل ما هو مطروحا أمام المعارضة التقدمية الرجعية هو ما كان مطروحا من 40 سنة

No comments:

Post a Comment