Wednesday, February 18, 2009

عن تجريه غزة


البؤر الثورية

يمكن أعتبار الهجوم الإسرائيلي على غزة هو الثالث من نوعه في مسلسل تشكيل القوى الفلسطينية لبؤر عسكرية ثورية و تحطيمها – أو السعي لذلك - على أيدى خصومهم. فما الذي يمكن أستفادته من هذه التجارب المتنوعة؟
كانت البؤرة العسكرية الثورية الأولى هي التي نشأت في الأردن و حطمها جيش الملك حسين. و قد أحتضنت هذه القاعدة العسكرية مخيمات أللاجئين في ألأدرن ألتي أهدت الشعب الفلسطيني أحد أكبر انتصاراتهم في معركة الكرامة عام ٦٨ . و رغم أن الانتصار لم يكن بالحجم الذي تم الترويج له بعد ذلك من الزاوية العسكرية. ألا انه كان تطورا مهما يدل على تزايد قدرات الثورة الفلسطينية العسكرية.و بالطبع لم يكن الملك حسين سعيدا و هو يرى قوة مسلحة ثورية تنمو أمام عينية و ترفع شعارات مخالفه تماما لنظامة. و لم يكن الفلسطينيين سعداء بالقيود التي تفرض عليهم من قبل نظام الملك. لذا سار الطرفين على مسار واحد في اتجاهين متضادين يودى لصدام حتمي. الفلسطينيون يفكرون في خلق سلطة موالية في الأردن الذي يريد التخلص منهم. و رغم ضعف الجيش ألأردني العسكري ألا أنه بمعونة إسرائيلية أستطاع دحر الفلسطينيين. فلم يكن ممكنا أن يواجهوا المدرعات و الطائرات. و لم يستطع عبد الناصر ألا أن ينقذ أروحاهم دون قاعدتهم و ينقلهم للبنان قبل موته مباشرة
و في لبنان تكررت المأساة على مستوى أكبر. ففتح لاند إلتي وجدت في جنوب لبنان كانت قاعدة ضخمة بكل المقاييس. حتي يمكن القول أنه كانت هناك سلطة فلسطينية من الناحية الفعلية في جنوب لبنان مجهزة بجيش على النمط التقليدي مذود بحصون و خطوط أمداد الخ. و رغم أن وجود هذه السلطة الفلسطينية لم يكن الدافع الوحيد للحرب الأهلية اللبنانية ألا أنه كان أحداها. و أستطاعت القاعدة الثورية الفلسطينية أن تدعم القوى الوطنية اللبنانية – بعد تردد – و تهزم القوى اليمينية اللبنانية. و هنا تدخل الجيش السوري بطلب من اليمين اللبناني و وضع حدا لانهيار السلطة التقليدية في لبنان و حجم القاعدة الفلسطينية. و ما أن وقعت إسرائيل معاهدة السلام مع مصر وأصبحت يدها طليقة أطلقت آلتها العسكرية عام ٨٢ على القاعدة الفلسطينية كي تسحقها مرتكبة أبشع المجازر في صبرا و شتيلا. وببسالة دافع الفلسطينيون عن بيروت المحاصرة من الجيش الإسرائيلي لشهور. بينما الجيش السوري يراقب من بعيد دون أن يفعل شيئا. و مرة آخري لم يكن من الممكن مواجهة قوة متفوقة في كل مقياس و هكذا أنتهت القاعدة العسكرية الفلسطينية الثانية.
و ألان تتكرر المأساة في غزة مع أختلاف في التفاصيل. القاعدة الثورية هذه المرة على ألأرض الفلسطينية فلا إسرائيل سعيدة بها و لا مصر حريصة عليها. لذا كان من المحتم أن ينقض عليها الجيش الإسرائيلي حتي و لم تهاجم المدنيين. لكن الهجوم على المدنيين الإسرائيليين وفر الزرائع لجيش الاحتلال. النتيجة هي تكرار للتجارب ألسابقة فلا يمكن لقوى محدودة أن تواجهه مدرعات و طائرات و جيش أكثر عددا . و حتي لو تصورنا جدلا قيام نظام تورى في مصر يدعم الحق الفلسطيني بكل السبل لابد أن هذا النظام ستكون له حساباته الخاصة لمتي يريد أن يهدئ و متى يريد أن يصعد و متي يريد أن يتقدم و متى يريد أن يتقاعد. و الدليل الأبرز على ذلك موقف أيران من الاحتلال الأمريكي للعراق. فلا أيران تدعم تماما المقاومة العراقية و لا هي ترفضها تماما أنما تستخدمها حسبما ترى مصالحها القومية. و هذا ما حدث تماما في لبنان حينما رأى نظام حافظ الأسد في سوريا أن أنتصار ساحق للمقاومة الفلسطينية على خصومهم اللبنانيين لن يكون في مصلحته فسارع لإنقاذ اليمين اللبناني بتدخل عسكري مباشر. رغم أن نظام الأسد هذا كان و ما زال يؤسس شرعيته على دعم المقاومة الفلسطينية.
أن أسلوب حرب العصابات أو الحرب الثورية يتمتع بميزة هامة في مواجهة القوى النظامية و هي قدرته السريعة على التكيف حسب ظروف المواجهة. فالقاعدة الثورية يمكن أن تنشأ و أن تختفى لتظهر في مكان آخر و المقاتلين هم جزء من الشعب يتحركون على اتساع الوطن وسط بيئتهم الطبيعية يتلقون الدعم من السكان المحليين و يقيمون قاعدة أو أكثر حسب الحاجة و يهجرونها أيضا حسب الحاجة. فالقاعدة الجوهرية للحرب الثورية هي عدم الثبات. كما تم تلخيصها في عبارة "حينما يتقدم العدو نتراجع و حينما يتراجع نهاجمه و حينما يتحصن نناوشه”. و كل هذا لا ينطبق على تجارب القواعد الثورية العسكرية الفلسطينية. فهي قواعد تتميز بالجمود حيث لا تتواجد في مناطق واسعة وسط سكان مؤيدين مثلما الحال في الأردن و لبنان (فلسطينيين يحاربون على أرض ليست أرضهم ). أو محصورة مثلما الحال في غزة. و هي قواعد لا تنشأ وسط قوى العدو – مثلما الحال في فيتنام أو الجزائر – بل هي تنشأ على الأطراف خارج مجال عمل العدو. فتصبح فريسة سهلة لقواته العسكرية المتفوقة. يضاف إلي ذلك ألترابط السياسي بين القواعد الفلسطينية و التنظيمات المكونة لها بحيث تصبح القاعدة ليست وسيلة لتحقيق هدف أسمى بل هي نفسها غاية يجب الحفاظ عليها بكل السبل.
و لا يعود الخلل في القواعد الفلسطينية إلي الجهل بقواعد حروب العصابات و الحروب الثورية على العكس تماما فلقد أفرزت الثورة الفلسطينية خبرات و عقول عسكرية مهمة. و مثل هذه القضايا كانت تناقش بشكل واسع قبل أنحطاط الفكر الفلسطيني. أنما تعود القضية لطبيعة الصراع نفسة. فنحن لسنا إزاء أحتلال يجرى التخلص منه و أنما إزاء مجتمع إسرائيلي ناهض و متقدم و مسلح جيدا أفضل من كل الدول المحيطة به لكنه يقوم على ارض فلسطينية مغتصبة. فحتى لو تحالفت كل الدول المحيطة بإسرائيل مع المقاومة الفلسطينية لا يمكنها الإطاحة بهذا المجتمع دون مجازر واسعة النطاق يصعب تصورها و يصعب تصور قبول العالم بها. أنما الخلل يعود إلي الرؤية السياسية التي لا تستطيع أن تدمج المجتمع الإسرائيلي القائم ألان في المنظومة المطروحة كحل للقضية الفلسطينية. كما يعود إلي عدم تبنى سياسة عسكرية تستند للواقع السياسي القائم و تتطور معه.
بداية لا يمكن تصور تغيير المجتمع الإسرائيلي بدون أن يكون قسم هام من سكان هذا المجتمع لهم مصلحة مباشرة في تغييره. و بالطبع هذا يلغى أوتوماتيكيا أفكار من نوع "إزالة" إسرائيل الخ. و ثمة تفسيرات أقل ما يقال عنها أنها مضحكة تقدم في هذا السياق من نوع أن سكان إسرائيل سيهجرونها طوعا لأنهم غير مرتبطين بالأرض الفلسطينية. مثل هذا النوع من التفسيرات شديدة الضرر بالثورة الفلسطينية و شديدة الخطر لانها تنبني على أسس لم يقم عليها دليل تاريخي من أي نوع. فمثلا المهاجرين إلي الولايات المتحدة لم يتركوها رغم عدم وجود أي صلة تجمعهم بها وفضلوا محاربة سكان أمريكا الأصليين – الهنود الحمر – الذين بدورهم بذلوا كل ما وسعهم كي يخلصوا أرضهم من المستوطنين الجدد. و تفسيرات من نوع أن المجتمع الإسرائيلي لا يتحمل الخسائر البشرية فيكفى تكبده بعض الخسائر حتى يسلم و هذا وهم آخر فكل مجتمع يتحمل خسائر على قدر الجائزة المتاحة. ففي جنوب لبنان ربما ليس هناك أستعداد إسرائيلي لتحمل خسائر في أرض لا يعتبرها أرضة لكن هذا يختلف كيفيا عن فلسطين.و قد تحملت إسرائيل فى معركة جنين خسائر أكبر من غزة أمام قوات أقل كثيرا من غزة لان القضية كانت بالغة الحساسية – أطلاق صواريخ من جنين على المستعمرات الإسرائيلية.
و من هنا يبرز أهمية شعار الدولة الواحدة الذي لن نناقشه هنا فقط نشير إليه
ثانيا تبرز تجارب القواعد العسكرية أهمية تقديم المستوى السياسي على المستوي العسكري. بمعنى انه لا يجب أن يطلق صاروخ لأننا قادرين على أطلاقة و أنما لأننا نريد ذلك. و أحداث غزة نموذج لسيطرة العسكري على السياسي فالسبب المعلن لإطلاق الصواريخ على إسرائيل هو فك الحصار على غزة. و كما أن لدى إسرائيل طرق عديدة لإيقاف أطلاق هذه الصواريخ بما فيها فك الحصار، لدى الفلسطينيين طرق عديدة لفك الحصار دون عمل عسكري منها أثارة حركة جماهيرية واسعة ضد الحصار لأشك كان سيتعاطف معها العالم. ثم أن قرار فك الحصار بوسائل عسكرية صنع موقفا شاذا حيث يخوض الفلسطينيين حرب حياة أو موت في غزة بينما نفس الفلسطينيين في الضفة تحت نفس الاحتلال لا يفعلون شيئا من الناحية العملية ناهيك عن الفلسطينيين في المخيمات. لو كان السياسي يتقدم على العسكري لكن قرار فك الحصار من خلال عمل عسكري خضع على الأقل لتحضير سياسي كافي يكفل مشاركة الفلسطينيين حيثما كانوا فيه. خاصة و أن القاصي و الداني يعلم أن أنفاق رفح كانت تشكل تنفيس ضخم لقسوة الحصار. و حتى على المستوى اللغوي تقدم العسكري على السياسي فأصبحت كلمة المقاومة تعنى المقاومة المسلحة لا غير. رغم أن سكان قرية بعلين الفلسطينية يمارسون مقاومة شرسة للاحتلال دون سلاح و يقدمون الضحايا و يحققون بعض المنجزات و يشاركهم ناشطين من كل أنحاء العالم. تقديم العسكري على السياسي مرض أصاب كل تجارب القواعد الفلسطينية بسبب تدهور البنية السياسية للثورة الفلسطينية و تدهور المجتمع الفلسطيني
و هذا يجرنا ثالثا إلي أولوية بناء المجتمع الفلسطيني على كل ما عداها. أحد الخصائص الأساسية للقاعدة العسكرية الثورية هي التركيز على بناء مجتمع متقدم ناهض إنساني في ظروف الحرب. كوسيلة لحفز التأييد بين السكان لمساندة القاعدة من ناحية و كوسيلة لاجتذاب التأييد لها من خارجها على ضوء منجزاتها الاجتماعية. و الوضع في غزة مختلف تماما عن ذلك كما الحال في التجارب السابقة. فغزة تعتمد أعتمادا كليا على يد المساعدة المقدمة لها من الخارج. و ليس من المحتم أن يكون الوضع كذلك. فبعض التقديرات تشير إلي أن 80٪ من السكان عاطلين. رغم أنه يمكن تشغيل السكان في الأعمال العامة – طرق تحصينات محو أمية الخ- حتى ولو بأجر متدن. و هناك كثير من المبادرات ألتي يمكن القيام بها لتحسين الوضع الحياتي. فمثلا لما لا يتم أنتاج الكهرباء من مراوح هوائية مصنعة محليا؟ أو لم لا يتم بناء ملاجئ من الغارات الإسرائيلية المتكررة؟ و لم لا يتم خلق نظام قوى من التكافل الاجتماعي؟ و نظام للمواصلات العامة و تكثيف الزراعة كي تفي بأكبر قدر ممكن من الاحتياجات الخ. ثم لما لا يقوم نظام سياسي في غزة يجمع كل الفرقاء تحت قيادة حماس عسكريا و سياسيا مما سيكون له أبلغ الأثر على الضفة؟. دون أن يستفيد السكان مباشرة من وجود القاعدة سيتقلص التأييد لها دون جدال. و في ظل وضع كهذا يصبح التطوع للجندية في القاعدة العسكرية وسيلة رئيسية للدخل. أي تتحول القاعدة العسكرية إلي ضرورة أجتماعية بغض النظر عن دورها السياسي و هذا عيب مميت لآي حركة ثورية.
و ينعكس سيادة العسكرية على كل مناحي الحياة في السلوك القاصر للدعاية السياسية. فحينما تسمع دعاية حماس مثلا تظن أن حماس هي التي تملك القنابل الذرية و إسرائيل هي التي تحارب بصواريخ القسام. و مثل هذه الدعاية عدا عن أنها مضللة ضارة جدا بمستقبل القاعدة. و أكبر مثال على ذلك الخط الدعائي الذي سلكته حماس مع الشعب المصري. و لا يخالجني شك أن المصريين كانوا قادرين على إكراه النظام على فتح المعبر لو تم التوجه اليهم بالأسلوب المناسب و لو لم يتم أقتحام المعبر بالقوة. لكن مثل هذه الأمور لا يوليها أحد عناية في ظل جو العسكرة ضيق الأفق الذي دائما ما يخيم على قاعدة مثل ذلك.
نخلص من ذلك إلي أن القاعدة العسكرية الثابتة لا تلائم الوضع الفلسطيني و في الحقيقة لم تظهر مثل هذه القواعد الثابتة إلا في مراحل متقدمه من الكفاح في كل التجارب.

No comments:

Post a Comment