Monday, May 27, 2013

الثورة شبه المتماثلة

الثورة شبه المتماثلة
Asymmetrical Revolution

إهداء إلي رفيقة الدرب

symmetrical asymmetrical يترجم جوجول الكلمتين ب متناظرة و غير متناظرة بينما يترجم unsymmetrical ب غير متماثل. و في الحقيقة أن كلمة asymmetrical تعني غير متماثل تماما . أو متماثل تماثل مكسور. أو شبه متماثل .
و الأنظمة الطبيعية من خواصها التماثل المكسور فمثلا رجلك اليمني لا تساوي في الطول تماما اليسري رغم انهما تشبهان بعضهما البعض لحد كبير و كذلك الفص الأيمن و الأيسر للمخ و الكرة الأرضية تكاد أن تكون كرة و لكنها ليست كذلك الخ. و هذا المفهوم ينطبق ليس فقط علي الأنظمة الكبيرة و لكنه كامن في كل نظام طبيعي بدء من التركيب الذري لتركيب المجرات. بينما الأنظمة الصناعية علي العكس تميل للتماثل التام .و يمثل هذا التماثل المكسور قوة دافعة للنظام الطبيعي فمثلا لم تكن الأرض لتبقي تدور حول الشمس لولا المسار الأهليجي الذي تتخذه و هو نموذج أخر لشبه التماثل. و الأنظمة شبه المتماثلة لا تتبع قاعدة التماثل بعض الحالات ثم تتبع قواعد عشوائية في حالات أخرى. لكنها علي العكس تنتقل من قاعدة للتماثل إلي قاعدة أخري علي سبيل المثال يمكن تصور المسار الأهليجي للأرض باعتباره دائرتين – أو عدد كبير جدا منها -أحدهما في نهايته العريضة و الأخر في النهاية الضيقة..و قد استخدمت وزارة الدفاع الأمريكية المفهوم -asymmetrical - لوصف الحرب علي الإرهاب. فهي حرب تدور بين طرفين لكن الطرفين مختلفين من حيث التركيب و النوعية و هي حرب لها ساحات متعددة و ليست مساحة جغرافية محددة و هي حرب لا تلعب فيها الأسلحة كل الدور فهناك دور واسع للحرب النفسية و للتضليل الخ . Asymmetrical war .
و هذا المفهوم يقدم لنا مقاربة أعتقدها هامة للثورة المصرية و للثورات العربية عموما. فالربيع العربي كما سمي هو ثورات شعبية من زاوية حجم المشاركة الشعبية و عمومية المطالب "إسقاط النظام" و لكنه ليس "ثورات" بالمعني الكلاسيكي. و المعني الكلاسيكي للثورة هو أنتفاضة شعبية تقوم فيها طبقات بإزاحة طبقات أخري من السيادة المجتمعية. و قد حدث خلاف واسع هل يسمي ما جري بثورة أم انتفاضة شعبية؟ و حجة من يطالبون بإطلاق اسم أنتفاضة هي أن هذه الثورات لم تقدم بديلا أكثر تقدما اجتماعيا للأنظمة القائمة التي دعت للإطاحة بها. بل ربما علي العكس أفضت الثورة المصرية -حتي الآن- عن نظام أشد تخلفا و رجعية و استبدادا و معاداه للجماهير عن نظام مبارك.بينما حجة من يسمونها ثورة تستند إلي أن العملية الثورية شملت حشودا جماهيرية ضخمة و رفعت مطالب تتعلق بالتغيير الجذري للواقع القائم. و شبه التماثل واضح هنا في جمع الثورة بين خصائص نظامين مختلفين لحد ما خصائص الثورة من حيث الاتساع و العمق و خصائص الانتفاضة من حيث العفوية و غموض البديل الاجتماعي أو عدم وجوده.
قبل الاستطراد نقف لنسأل ما هي علاقة الثورة التي هي حدث بشري اجتماعي بمفهوم هندسي؟ . التماثل خاصية شائعة في الأشكال الهندسية حقا فنصف الدائرة الأيسر يساوي تماما الأيمن. لكن التماثل أوسع من الأشكال الهندسية فهو يتعلق ب Patterns أو الأنماط . فحينما نعرف نمطا معينا ذو خصائص معينة يمكننا في نفس الوقت أن نعين الأنماط المغايرة و الشبيه. و الثورة "نمط" من أنماط الحركة الاجتماعية و الحرب و الانتفاضة و الخ. و في حياتنا اليومية نستعمل مفهوم التماثل و عدم التماثل مثلا في أن نقول أن فلانا يشبه فلان أو أن نظام مبارك يشبه نظام مرسي الخ . التماثل و عدمه و التماثل المكسور مفاهيم مرتبطة بعلاقة الأجزاء المكونة للنظام مع بعضها البعض سواء كانت أضلاع مثلث أو ملامح الوجه أو مؤسسات الحكم و السياسية و القضاء.

لنعد لتحليل اللاتماثل الكامن في الثورة. علي المستوي الكلي للثورة نجدها ثورة الطبقات الشعبية – كما يجب أن يكون الحال في نمط الثورة- و لكن ليس تماما فشرائح اجتماعية من الرأسمالية الكبيرة الحاكمة شاركت في الثورة -بشكل ما – بل كان لها دورا حاسما فيها و خصوصا المؤسسة العسكرية و الإخوان . و بالطبع فلكل منهم هدفه من المشاركة. و يمكن القول أن لو كانت هذه الثورة شديدة التبلور في قواها الاجتماعية و مطالبها و البديل الذي تطرحه- أي لو كانت تتبع نمط الثورة بشكل نقي أن صح التعبير- لما وقفت تلك القوي الرجعية معها بل لعارضتها كما عارضتها بعد انتهاء حدث الثورة الرئيسي و أصبحت تمثل الثورة المضادة. فلم يكن العسكر ليقوموا بانقلابهم الصامت و لا الإخوان أن يشاركوا فيها لولا الطابع المترهل فيها أي غياب بديل يعبر حقيقة عن مصالح الطبقات الشعبية أي لولا لا تماثلها.فمشاركة القوي الرجعية في الثورة كان نابع أما من الرغبة في استخدامها أو سحقها و لم يكن هذا ليكون مطروحا لو كانت الثورة ترفع شعارات و تحشد حول نظام جديد و لا تكتفي برفض القائم .و إذا كانت مشاركة تلك القوي الرجعية في حدث الثورة الرئيسي قد لعبت دورا حاسما في نجاحها بالشكل و المستوي الذي رأيناه فهذا يعني أن الثورة المصرية مدينة بنجاحها لطابعها الواسع غير المحدد و المترهل. علي العكس من ذلك نجد الثورة السورية و الليبية لم يحدث فيهما تلك الحالة من أندماج المؤسسة العسكرية في الثورة – بصرف النظر عن الدوافع – مما حول الثورتين السورية و الليبية لحروب أهلية واسعة النطاق و التدخل الأجنبي العنيف من مختلف الأطراف في كلتا الحالتين.و من ناحية أخري فأن العكس أصبح القاعدة عقب حدث الثورة الرئيسي إذا تسبب الطابع المترهل اللامتماثل للثورة المصرية إلي الأوهام و الجري و راء السراب بما في ذلك المشاركة في حملة أنتخاب مرسي للرئاسة.

فالجدث الذي وقع في يناير 2011 هو إذن ثورة شعبية -بحكم الأتساع و أمور أخري – و هو أنتفاضة عفوية -بحكم ضعف التبلور و القيادة – و في نفس الوقت هو أنقلاب قصر – أنقلاب المجلس العسكري علي مبارك – و هو صراع شرائح رأسمالية علي السلطة – الإخوان و نظام مبارك الليبراليين و مبارك أيضا – و يمكن تصويره أيضا باعتباره تمرد شبابي علي شيخ عجوز يتحكم في مصيرهم -نوعا من ثورة 68 الشبابية- .أي أن عدم التماثل في الثورة المصرية هو عدم تماثل متعدد الأبعاد و يمكن النظر للثورة من أيا من هذه الزوايا و بحث تفاعلها و حركتها و استمراريتها و أنقطاعها.
و يجب أن نؤكد قبل الاستمرار أن الهدف من هذا البحث أو التأملات ليس الرياضة الذهنية و أنما محاولة التوصل لقوانين حركة الثورة المصرية من أجل مواصلتها و توجيهها علي أفضل نحو ممكن. فالثورة المصرية التي تتجلي بصور متعددة تعكس تعدد الأنماط التي تجري داخلها و هو ما نقصده بالاتماثل.

و لا يتبدى شبه التماثل فقط في ظاهرة الثورة من حيث كليتها و لكنه يمتد إلي كل الأجزاء المكونة لها. فنجد أن الطبقات الاجتماعية الرئيسية المشاركة في الثورة تتميز بضعف التبلور. فمن نسميهم بفقراء المدن أو المهمشين أو أشباه البروليتاريا كان لهم دورا رئيسيا في الثورة من بدايتها حتي الآن لكنهم لا يمثلون طبقة واضحة المعالم و هناك من يعتقد أنهم ليسوا طبقة اجتماعية علي الإطلاق بل فئات متنوعة. و الطبقة الوسطي التي دعت للثورة في المقام الأول هم أيضا طبقة من الناس شديدة الأتساع بين موظفي الدولة الأقرب للفقراء و بين من يكسبون مرتبات مجزية في شركات الاستثمار و غيرها. بل أن أعلام هذه الثورة الشعبية اللامتماثلة في معظمهم أقرب للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة إلي الشريحة السلفي منها و أن كان هذا الانطباع يحتاج لبحث مستقل.

و الطبقة العاملة العتيدة هي أيضا طبقة فاقدة للتحدد و الوضوح و ليس أدل علي ذلك من مستوي الاحتجاج بين قطاعاتها المختلفة و نوعية هذه الاحتجاجات . ففي قطاعات متقدمة حيث العمال يحصلون علي دخل كافي و مستوي المنافسة محدود أيضا كنتيجة للمهارة المطلوبة نجد الاحتجاجات قليلة عكس قطاع الغزل و النسيج مثلا أو النقل. و لا يمكن الاستناد إلي اللاتماثل في الثورة و في الطبقة العاملة كوسيلة لأنكار الإثنين إلا أذا بعدنا عن الثورة و عن مصالح الطبقة العاملة. لا يمكن أن يكون مفهوم اللاتماثل إلا دافعا لتوسيع القوانين التي نعرفها عن الثورة و عن الطبقة العاملة. أي تطويرها لتستوعب الوقائع الجديدة و ليس نفيها باسم هذه الوقائع ذاتها كما فعل ذلك عددا من الكتاب.

و لم تكن الثورة لتكون لا متماثلة لولا أن الطبقات الرئيسية المشاركة فيها لا متماثلة أيضا أي تختلط فيها أشكال اجتماعية متنوعة بجانب الشكل الرئيسي. و في مجتمعات الجنوب المتخلفة صناعيا و اجتماعيا لا يمكن أن تكون هناك طبقات شعبية متبلورة دون الدخول في تجربة صراع اجتماعي طويل تكسب هذه الطبقات تبلورها

و علي نفس المنوال قدر ما كانت الثورة عميقة في المدن الرئيسية كانت غائبة في القري و النجوع. و في النهاية انتصرت القري و النجوع علي المدن و أسست نظام بدأ حياته كظهير للعلاقات الزراعية المتخلفة – نظام الإخوان – عبر صناديق أقتراع ملوثة بأموال الخليج و إسلام عصور الانحطاط.

و من ناحية أخري لم تأتي الثورة كثمرة ناضجة لإعداد ثوري متواصل و متصاعد بل جاءت الثورة كي تقطع الطريق علي عملية الإعداد لها التي جرت طوال العقد السابق عليها مدفوعة بالاحتقان وسط الطبقة الحاكمة و بالأزمة العالمية و بالمثل التونسي. قطعت الثورة الطريق علي التجهيز لها ثم اكتشفت كما كان مهما لها للنجاح و عادت بالتالي للحظة الإعداد الثوري لكنه هذه المرة مشتبكا مع عملية ثورية تجري فعلا. فاصبحنا نري النمطين مندمجين معا و هذا أحد أوجه اللاتماثل في الثورة المصرية.

مع مجيء الإخوان النظام المنتخب كان متصورا أن يستعيد النظام نفسه من ضربة يناير الساحقة و يعيد الانتظام و يسحق الثورة. و هكذا خطط المجلس العسكري و خططت أمريكا. لكن الإخوان بحكم كونهم من خارج النظام و أصحاب رؤية فاشية ذادوا المجتمع أضطرابا و بدلا من أن يصبحوا حماه المجتمع الرأسمالي من الثورة أصبحوا سببا أخر للثورة فلا هم أرضوا الثوار الذين حملوهم للحكم و لا شركائهم الرأسماليين و لا راعيهم الأمريكي و لا حليفهم العسكري. فكي يخلقوا لأنفسهم مكانا وسط النظام كان لابد من أن يعيدوا ترتيبه علي مقاسهم و مقاس أفكارهم الرجعية. فنظام ما بعد مبارك -أي وريثه- يضيف مزيد من التعقيد للعملية الثورية. فالنظام الحاكم نفسه الآن فقد وحدانيته و أصبح متعددا. و رغم أن التناقضات بين كلا النظامين تناقضات ثانوية إلا أنها في شروط الموجة الثورية تكتسب وزنا كبيرا في الحياة العامة.

ما الذي يمكن أن يضيفه مفهوم اللاتماثل لفهمنا للثورة و للسيرورة الثورية؟
1 – كل محاولة لتحليل الثورة تناقش بعدا واحدا من أبعادها مصيرها الفشل و كل محاولة لتحليل الثورة لا تتعرض للأنماط المختلفة و تفاعلها مع لن تصل لما تتمناه.

2 – العملية الثورية تأخذ مسارات متعددة و ربما متعارضة بينما القوي الشبابية تركز مثلا علي حقوق الشهداء فأن قوي شعبية أخري تركز علي قضايا العدالة الاجتماعية. لكن لابد من أدراك أن المعارك الثورية – محمد محمود مثلا أو مهاجمة مقارات الإخوان – رغم كونها ثانوية جدا من منظور الصراع الاجتماعي الواسع فهي تلعب دورا هاما في أبقاء الموجة الثورية حية و نابضة و يمتد تأثير هذه المعارك من مراكزها لأعماق التركيب الاجتماعي. و حركة النقابات المستقلة التي أعقبت الثورة و حرية الصحافة لم تكن كلها ممكنة لولا تلك المعارك الثورية التي دارت حول محاور بعيدة عن النقابات أو حرية الصحافة. و المواجهات الشعبية مع الإخوان التي جرت خصوصا في الأقاليم لعبت دورا حاسما في إيقاف المد الفاشي الإخواني عند حدوده الآن.

3 – أن العملية الثورية لم تصل بعد لمستوي دمج كل المكونات معا في مشروع ثوري و هو المشروع الذي لم يوضع بعد من الناحية الموضوعية و أن كان هناك عشرات المشاريع علي الورق. و صعوبة الدمج هنا ناجمة عن المسارات المتعددة التي تتخذها الثورة. فبينما تركز قوي علي الفاعليات الجماهيرية المناوئة للنظام تركز أخري علي مطالب محدودة و محددة اقتصادية بالأساس. و هذا ما نعبر عنه بضعف الشرط الذاتي للجماهير أو الوعي و التنظيم. و يرتبط بذلك أيضا أن القوي الاجتماعية المشاركة -أو التي تميل للثورة – ما زالت متسعة خارج الطبقات الشعبية – ليبراليين و فلول الخ – فالثورة مركبة يختلط فيها التمرد الشعبي بالصراع علي تركة مبارك. بل أن حتي قادة القوي اليسارية في معظمهم من خارج الطبقات الشعبية.
4 – يمكن الاستنتاج أيضا أن مآل هذه الثورة سيكون علي مثالها لا متماثل. فهذه الثورة أو العملية الثورية و سيرورتها لا يمكن أن تفرز إلا واقعا أجتماعيا جديدا لا متماثل أيضا بل متعدد الأنماط. المطلوب هو أن نركز علي تلك الأنماط الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية الأقرب لمصالح الجماهير الشعبية.
15 مايو 2013

No comments:

Post a Comment