الاشتراكية و الشعبوية
يسود تيار واسع من الشعبوية الثقافة و السياسية المصرية المعاصرة. و يغلب علي الإعلام. و يتغلغل وسط صفوف اليسار بشكل واسع. و أقصد بالشعبوية هذا الاتجاه الذي يقدم للسامع أو الرأي ما يحب أن يسمعه و يراه و ليس حقيقة الواقع بدون تزوير أو تبديل. و الاتجاه الشعبوي وسط اليسار لا يقتصر علي تيار معين بل موجود بقوة وسط كل فصائل اليسار. و أهم ما يميزه هو غياب تحليل الواقع المعاش و الاكتفاء بترديد الشعارات عالية الصوت. و أدعاء معرفه حلول كل القضايا و الافتقاد التام لمحاسبة النفس و النقد الذاتي. و يغذي هذا الاتجاه بعضة فما أن تجد أحدا يقول شعارا عالي الصوت دون أي برهان أو تفصيل حتي تجد الآخرين يتحمسون و يهللون لصاحب الشعار دون محاسبة أو تمحيص. و المزايدة هي الوسيلة الأساسية لأنصار هذا الاتجاه الكل يسعى لشعبية من خلال تملق الجمهور أي كان.فمثلا في الخلاف بين مصر و الجزائر كانت قطاعات واسعه من الشعبين تتبني مواقف عنصرية ضد الشعب الآخر و هذا في حقيقة الأمر ضد صالح آي منهما. لكن الإعلام الشعبوي وجد هذه فرصة لكسب الشعبية من خلال التمجيد الزائف في النفس و أحتقار الآخرين. و رغم أن كثير من الإعلاميين يعلمون تماما أن هذه عنصرية لن تؤدي ألي آي شيء. و مثل هذا تراه في حديث اليسار عن غزة مثلا. تمجيد و تهليل عالي الصوت دون أي مناقشة موضوعية للوضع القائم فعلا في غزة. و كأن العالم أحادي منبسط دون تعاريج أو تضاريس. الشعبوية هي نسخة من فيلم أمريكي فيه ينقسم العالم إلي قسمين الخير و الشر . و كما توجد شعبوية وسط اليسار تنتشر وسط اليمين وباقي التيارات السياسية
و ثمه أوجه تشابه بين الاشتراكية و الشعبوية فكلاهما يزعم الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية. لكن بينما تتبني الاشتراكية روية و منهج علمي صارم قابل للنقاش لا تشغل الشعبوية نفسها بمثل هذه الأمور. و قد حاربت الاشتراكية الشعبوية – مثلا في صورة تقديس العفوية – لانها تضلل الطبقات الشعبية. و من بين الاتجاهات الأكثر عداءا للشعوب أتجاهات شعبوية مثل النازية و الفاشية.
و بينما تقف الاشتراكية من كل قضية موقف ينبني علي أساس محدد من الصراع الطبقي نجد الشعبوية تري كل قضية من منظور كيف يمكن كسب المستمعين. فالخطاب الاشتراكي لا يري فقط أن النظام مستبد و خائن مثلا. و لكنه يري أيضا – و بنفس القدر – أن الشعب مضلل و لا يدافع عن حقوقه. و لذا فان الخطاب الاشتراكي يركز علي الخطوات و الأساليب الضرورية للشعب في لحظة معينة. الشعبوية علي العكس لا تري ألا أن هناك نظام مستبد و خائن. و الخطاب الشعبوي بالتالي من خلال تملق الجماهير يحتقرهم لانه يحسبهم دائما في قسم المفعول به و يحسب أن أرادتهم منعدمة. الخطاب الاشتراكي لا يري الإمبريالية مثلا خيرا أو شرا الإمبريالية هي مرحلة من تطور الرأسمالية يقترن فيها تقدم بعض المجتمعات بتخلف البعض الأخر.و بالتالي يكون الخلاص من الإمبريالية هو بالتطور الاجتماعي في المحل الأول. و إلا لما أحتلت أنجلترا مصر و لم تحتل فرنسا مثلا؟ الخطاب الشعبوي عن الإمبريالية خطاب أخلاقي في المحل الأول يراها شرا و لا يشغل نفسه و مستمعيه من أين جاء و لما و ما دورنا فيه و بالتالي ينتهي إلي قدرية كاملة. الاشتراكية تنبني علي منهاج دياليكتيكي في نقد الواقع الشعبوية تستند إلي المقاربات الشكلية بين الظواهر. الاشتراكية تريد للشعب أن يتعلم الديالكتيك و يري التناقضات في كل سلوك له أو للنظام أو أطراف الصراع الأخري. الشعبوية لم تسمع عن أى منهج و تتبني أي مقوله تراها مناسبه لكسب الجمهور.
و الشعبوية وسط اليسار لا تقتصر علي خطاب اليسار للجمهور بل تمتد إلي خطاب اليسار لبعضة البعض. فبدلا من النقاش الموضوعي تصبح الشعارات و التعميمات هي معظم أنتاجه. و في مخاطبة الجمهور قد يتسامح المرء قليلا مع قدر من الشعبوية تحسبا لعواطف المخاطب و المخاطبين. لكن حينما تسود الشعبوية حتي خطاب اليسار بعضه بعضا لا تكشف هنا عن رغبة في كسب الجمهور بأي ثمن بل تكشف عن ضحالة فكرية و ضعف نظري و أفتقاد للحلول. و من الطبيعي بعد عقود من الصمت أن يبرز الخطاب اليساري محملا بمثل تلك الأمراض الدالة علي ضعف البناء و علي الانحرافات الفكرية. لكن من الطبيعي أكثر أن يناضل اليسار ضد الشعبوية و أن يسعى لتأسيس خطابه علي أساس من منهج عقلاني جدلي و أن يركز علي الدور الفاعل للشعب.
No comments:
Post a Comment