هيا نختلف
من المفارقات المضحكة المبكية أن الحركة المطالبة بالحرية و الديمقراطية لا تطيق لا الحرية و لا الديمقراطية.و لا توجد فيها مساحة تسمح بالخلاف أو الاختلاف. فأنت أما مع أو ضد فلا وسط. فمن المعتاد حالما يأتي فرد من ضمن نفس الحركة بفعل أو فكرة مختلفة عن السائد حتي تهب عليه- أو عليها- رياح الرفض المدوي بل و العزل و القطيعة و الخصام الشخصي حتي. و هناك آليات محددة تفعل فعلها أولها آلية التنميط. فأي فكرة أو فعل لها نمط جاهز فهذا رجعي و هذا متطرف و ذلك إمبريالي و حنجوري و حتي خائن و عميل كلها أنماط تلقي دون أي تروي تصادر علي مناقشة الفكرة أو الفعل محل "التجريم" و تعزل صاحبه. ثم تأتي آلية أخري و هي "المؤامرة" و هي باختصار تعيد صياغة وسط الفكرة أو الفعل بحيث يبدو مستهجنا أكثر ما يمكن. ففلان لم يفعل هذا إلا لانه يقصد كذا أو يريد أن يخدم مصلحة هذا أو ذاك – و هؤلاء يتراوحون من الصغار حتي الإمبريالية و الاستعمار و النظام الخ- آلية المؤامرة تسعي إلي أعادة صياغة بيئة الفكرة أو الفعل بشكل تخيلي في معظم الأحيان كي تجعل هذه الفكرة لا يمكن قبولها. فمن يمكن مثلا أن يقبل فكرة تخدم أعداء الوطن ! لذا يكفي أن نضع أي فكرة في سياق تبدو فيه لخدمة هؤلاء. و هناك آلية آخري غير التنميط و المؤامرة هي آلية التحليل النفسي. و هي تسعي لإعادة صياغة القائل نفسه و ليس صياغة وسط ما يقال مثل المؤامرة. فهذا الذي فعل هذا هو – أو هي – مريض يمر بمرحلة حرجة. و لان المرض النفسي ليس له أعراض ظاهرة لغير المتخصص. فيتم اللجوء له. فيتم أعادة صياغة القائل بانه هو نفسة قال ما قال و هو ليس في كامل قواه العقلية.و هناك آليات آخري أكثر رهافة و أكثر قربا من العقلانية و أكثر ألتواء لكنها للأسف نادرة الاستعمال في حياتنا بسبب تخلف حياتنا الفكرية.
لا شك عندي أن سبب هذه الظاهرة المستفحلة هو البساطة و التواضع الفكري الشديد لكثير من النشطاء في المجال العام. و لكنها أيضا تكشف الغياب شبه الكامل لتصور جدي حول أهداف تلك الحركة و مراميها و أساليبها في اللحظات المختلفة من تطور الصراع الجاري في بلدنا. فإذا كانت لديك خطة لتحقيق أهداف معينة و قد أقتنعت تماما بخطتك و أهدافك فلا شك أنك ستحاول جاهدا أن تدرس كل فكرة تتعلق بها ربما كانت مفيدة و ربما عززت من قناعاتك الأصلية. لكنك لن ترمي بداية أصحابها بكل الصفات المؤذية قبل أن تناقشها في العمق علي الأقل حرصا علي الأهداف و الخطط الخاصة بك أولا. ثم بسبب غياب الخطة و التصور ينشأ بديل لهما و هو حركة القطيع. فالكل يجب أن يفعل و يقول نفس الشيء. علي طريقة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. فلا مجال لاحد كي يجرب أسلوبا جديدا أو يختبر توجها مختلفا. ثم أنك لو لديك خطة واضحة سيمكنك أن توظف فيها و حولها الكثيرين الذين هم ليسوا بالضرورة مؤيدين لها تماما. يمكنك أن تري أدوار مختلفة لمجموعات مختلفة من الناس ضمن سياق نفس الخطة. لكن غياب الخطة و التوجه يجعل كل من لا يؤيدك تماما لا فائدة منه لك.
كنت قد قررت كتابة هذا المقال مستوحيا خبرتي الشخصية. ثم جاء مؤتمر المصريين الأمريكيين و ردود الفعل علية كي أضعه كدليل عما أقول. و لن أعلق علي الحملة التي تشن ضد هذا المؤتمر فقط سأذكر تجربة جنوب أفريقيا. كانت الولايات المتحدة الداعم الأكبر لنظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا. لكن الحركة المناهضة للعنصرية و على رأسها المؤتمر القومي الأفريقي أستطاعوا نشر دعوتهم في الولايات المتحدة. حتي أن الكونجرس الأمريكي أصدر قرارا بمقاطعه جنوب أفريقيا. ثم أصدر الرئيس ريجان فيتو ضد قرار الكونجرس. و ريجان أحد الرؤساء ذوى النفوذ الطاغي. و رغم هذا أستطاعت تلك الحركة أن تجعل الكونجرس يعيد أصدار قرارة بأغلبية تجب فيتو الرئيس. و هي من المرات النادرة التي يمرر فيها الكونجرس قانونا رغما عن الإرادة الصريحة للرئيس. و كانت مقاطعة الولايات المتحدة للنظام العنصري بداية النهاية بعد فقده لأكبر داعم له. الآن أتصور هؤلاء الذين كانوا ينشطون في هذا المجال. هل يا ترى كان يقال لهم أنكم تتوجهون للإمبريالية الأمريكية التي تدعم النظام العنصري !؟ كانت لديهم خطة واضحة و لذا أستطاعوا أن يوظفوا الكثيرين في سياق خطتهم بما فيها ناس أقرب إلي عداوتهم. و كان لديهم في جنوب أفريقيا حق الاختلاف
و لا توجد حركة ناجحة واحدة للتغيير الاجتماعي أو السياسي إلا و قامت علي أكتاف تحالف من توجهات مختلفة. فبدون التحالف لا يمكن حشد ما يكفي من القوي لإنجاز المهمات الكبري. و أذا كنا لا يمكننا أن نتقبل كلمة أو حركة من هذا أو ذك فكيف سيمكننا أن نمد أيدينا إلي تيارات هي أبعد ما يمكن عننا. و هذا ينطبق علي اليسار و اليمين و الوسط.
أن الذي يدعو للديمقراطية يجب أن يكون ديمقراطي و الذي يدعو للحرية يجب أن يتقبل حرية الآخرين و الذي يرفع لواء الاشتراكية يجب أن يكون أشتراكي هو نفسه في حياته و ممارسته اليومية. فهيا نختلف.
No comments:
Post a Comment